الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
وأما قول القائل: لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقراً إليها وهي مفتقرة إليه فيكون الرب مفتقراً إلى غيره فهو من جنس السؤال الأول. فيقال أولاً: قول القائل لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقراً إليها يقتضي إمكان جوهر تقوم به الصفات وإمكان ذات لا تقوم بها الصفات فلو كان أحدهما ممتنعاً لبطل هذا الكلام فكيف إذا كان كلاهما ممتنعاً فإن تقدير ذات مجردة عن جميع الصفات إنما يمكن في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين في الخارج. ولفظ ذات تأنيث ذو وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافاً إلى غيره فهم يقولون فلان ذو علم وقدرة ونفس ذات علم وقدرة. وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب لفظ ذو ولفظ ذات لم يجيء إلا مقروناً بالإضافة كقوله ) ونحو ذلك. لكن لما صار النظار يتكلمون في هذا الباب قالوا أنه يقال أنها ذات علم وقدرة ثم أنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة وعرفوا فقالوا: الذات وهي لفظ مولد ليس من لفظ العرب العرباء ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم كأبي الفتح ابن برهان وابن الدهان وغيرهما وقالوا ليست هذه اللفظة عربية ورد عليهم آخرون كالقاضي وابن عقيل وغيرهما. وفصل الخطاب أنها ليست من العربية العرباء بل من المولدة كلفظ الموجود ولفظ الماهية والكيفية ونحو ذلك اللفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها فيقال ذات علم وذات قدرة وذات كلام والمعنى كذلك فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج لا يتصف بصفة ثبوتية أصلاً بل فرض هذا في الخارج كفرض عرض يقوم بنفسه لا بغيره. ففرض عرض قائم بنفسه لا صفة له كفرض صفة لا تقوم بغيرها وكلاهما ممتنع فما هو قائم بنفسه فلا بدله من صفة وما كان صفة فلا بد له من قائم بنفسه متصف به. ولهذا سلم المنازعون أنهم لا يعلمون قائماً بنفسه لا صفة له سواء سموه جوهراً أو جسماً أو غير ذلك ويقولون وجود جوهر معرى عن جميع الأعراض ممتنع فمن قدر إمكان موجود قائم بنفسه لا صفة له فقد قدر ما لا يعلم وجوده في الخارج ولا يعلم إمكانه في الخارج فكيف إذا علم أنه ممتنع في الخارج عن الذهن. وكلام نفاة الصفات جميعه يقتضي أن ثبوته ممتنع وإنما يمكن فرضه في العقل فالعقل يقدره في نفسه كما يقدر الممتنعات لا يعقل وجوده في الوجود ولا إمكانه في الوجود. وأيضاً فالرب تعالى إذا كان اتصافه بصفات الكمال ممكناً وما أمكن له وجب - امتنع أن يكون مسلوباً صفات الكمال ففرض ذاته بدون صفاته اللازمة الواجبة له فرض ممتنع وحينئذ فإذا كان فرض عدم هذا ممتنعاً عموماً وخصوصاً فقول القائل يكون مفتقراً إليها وتكون مفتقرة إليه إنما يعقل مثل هذا في شيئين يمكن وجود كل واحد منهما دون الآخر فإذا امتنع هذا بطل هذا التقدير. ثم يقال: ما تعني بالافتقار أتعني أن الذات تكون فاعلة للصفات مبدعة لها أو بالعكس أم تعني التلازم وهو أن لا يكون أحدهما إلا بالآخر فإن عنيت افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا باطل فإن الرب ليس بفاعل لصفاته اللازمة له بل لا يلزمه شيء معين من أفعاله ومفعولاته فكيف تجعل صفاته مفعولة له وصفاته لازمة لذاته ليست من مفعولاته وإن عنيت التلازم فهو حق. وهذا كما يقال لا يكون موجوداً ويقال أيضاً لا يكون موجوداً إلا أن يكون قديماً واجباً بنفسه ولا يكون عالماً قادراً إلا أن يكون حياً فإذا كانت صفاته متلازمة كان ذلك أبلغ في الكمال من جواز التفريق بينهما فإنه لو جاز وجوده بدون صفات الكمال لم يكن الكمال واجباً له بل ممكناً له وحينئذ فكان يفتقر في ثبوته له إلى غيره وذلك نقص ممتنع عليه كما تقدم بيانه فعلم أن التلازم بين الذات وصفات الكمال هو كمال الكمال. وأما القائل: إنها أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب والمركب ممكن محتاج وذلك عين النقص. فللمثبتة للصفات في إطلاق لفظ العرض على صفاته ثلاث طرق: منهم من يمنع أن تكون أعراضاً ويقول: بل هي صفات وليس أعراضاً كما يقول ذلك الأشعري وكثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره ومنهم من يطلق عليها لفظ الأعراض كهشام وابن كرام وغيرهما ومنهم من يمتنع من الإثبات والنفي كما قالوا في لفظ الغير وكما امتنعوا عن مثل ذلك في لفظ الجسم ونحوه فإن قول القائل " العلم عرض " بدعة وقوله: ليس بعرض - بدعة - كما أن قوله " الرب جسم " بدعة وقوله " ليس بجسم " بدعة. وكذلك أن لفظ الجسم يراد به في اللغة: البدن والجسد كما ذكر ذلك الأصمعي وأبو زيد وغيرهما من أهل اللغة. وأما أهل الكلام فمنهم من يريد به المركب ويطلقه على الجوهر الفرد بشرط التركيب أو على الجوهرين أو على أربعة جواهر أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو اثنين وثلاثين والمركب من المادة والصورة ومنهم من يقول: هو الموجود أو القائم بنفسه. وعامة هؤلاء وهؤلاء يجعلون المشار إليه مساوياً في العموم والخصوص فلما كان اللفظ قد صار يفهم منه معان بعضها حق وبعضها باطل - صار مجملاً وحينئذ فالجواب العلمي أن يقال: أتعني بقولك أنها أعراض أنها قائمة بالذات أو صفة للذات ونحو ذلك من المعاني الصحيحة أم تعني بها أنها آفات ونقائص أم تعني بها أنها تعرض وتزول وتبقى زمانين فإن عنيت الأول فهو صحيح وإن عنيت الثاني فهو ممنوع وإن عنيت الثالث فهذا مبنى على قول من يقول: العرض لا يبقى زمانين. فإن قال ذلك وقال هي باقية قال اسميها أعراضاً - لم يكن هذا مانعاً من تسميتها أعراضاً. وقولك: العرض لا يقوم إلا بجسم. فيقال: يقال للحي عليم قدير عندك وهذه الأسماء لا يتسمى بها إلا جسم كما أن هذه الصفات التي جعلتها أعراضاً لا يوصف بها إلا جسم فما كان جوابك عن ثبوت الأسماء كان جواباً لأهل الإثبات عن إثبات الصفات. ويقال له: ما تعني بقولك هذه الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم أتعني بالجسم المركب الذي كان مفترقاً فاجتمع أو ركبه مركب فجمع أجزاءه أو ما أمكن تفريقه وتبعيضه وانفصال بعضه عن بعض ونحو ذلك أم تعني به ما هو مركب من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو تعني به ما يمكن الإشارة إليه أو ما كان قائماً بنفسه أو ما هو موجود فإن عنيت الأول لم نسلم أن هذه الصفات التي سميتها أعراضاً لا تقوم إلا بجسم بهذا التفسير وإن عنيت به الثاني لم نسلم امتناع التلازم فإن الرب تعالى موجود قائم بنفسه مشار إليه عندنا فلا نسلم التلازم على هذا التقدير. وقول القائل: المركب ممكن إن أراد بالمركب المعاني المتقدمة مثل كونه كان مفترقاً فاجتمع أو ركبه مركب أو يقبل الانفصال - فلا نسلم المقدمة الأولى التلازمية وإن عنى به ما يشار إليه وما يكون قائماً بنفسه موصوفاً بالصفات - فلا نسلم انتفاء الثانية. فالقول بالأعراض مركب من مقدمتين تلازمية واستثنائية بألفاظ مجملة فإذا استفصل عن المراد حصل المنع والإبطال لإحداهما أو لكليهما. وإذا بطلت إحدى المقدمتين على كل تقدير بطلت الحجة.
وأما قول القائل: لو قامت به الأفعال لكان محلاً للحوادث إن أوجب له كمالاً فقد عدمه قبله وهو نقص وإن لم يوجب له كمالاً لم يجز وصفه به -: فيقال أولاً: هذا معارض بنظيره من الحوادث التي فعلها فإن كليهما حادث بقدرته ومشيئته وإنما يفترقان في المحل وهذا التقسيم وارد على الجهتين. وإن قيل في الجواب: بل هم يصفونه بالصفات الفعلية. ويقسمون الصفات إلى نفسية وفعلية فيصفونه بكونه خالقاً ورازقاً بعد أن لم يكن كذلك وهذا التقسيم وارد عليهم وقد أورده عليهم الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فزعموا أن صفات الأفعال ليست صفة كمال ولا نقص -: فيقال لهم: كما قالوا لهؤلاء في الأفعال التي تقوم بها أنها ليست كمالاً ولا نقصاً. فإن قيل: لا بد أن يتصف إما بنقص وإما بكمال فإن جاز خلو أحدهما عن القسمين أمكن الدعوى في الآخر مثله وإلا فالجواب مشترك. وأما المتفلسفة فيقال لهم: القديم لا تحله الحوادث ولا يزال محلاً للحوادث عندكم فليس القدم مانعاً من ذلك عندكم بل عندكم هذا هو الكمال الممكن الذي لا يمكن غيره. وإنما نفوه عن واجب الوجود لظنهم اتصافه به وقد تقدم التنبيه على إبطال قولهم في ذلك لا سيما وما قامت به الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده عن علة تامة أزلية موجبة لمعلولها فإن العلة التامة الموجبة يمتنع أن يتأخر عنها معلولها أو شيء من معلولها ومتى تأخر عنها شيء من معلولها كانت علة له بالقوة هذا عند ما سماه نقصاً من النقص الممكن انتفاؤه فإذا قيل: خلق المخلوقات في الأزل صفة كمال فيجب أن تثبت له قيل: وجود الجمادات كلها أو واحد منها يستلزم الحوادث كلها أو واحداً منها في الأزل فيمتنع وجود الحوادث المتعاقبة كلها في آن واحد سواء قدر ذلك الآن ماضياً أو مسقبلاً فضلاً عن أن يكون أزلياً وما يستلزم الحوادث المتعاقبة يمتنع وجود في آن واحد فضلاً عن أن يكون أزلياً فليس هذا ممكن الوجود فضلاً عن أن يكون كمالاً لكن فعل الحوادث شيئاً بعد شيء أكمل من التعطيل عن فعلها بحيث لا يحدث شيئاً بعد أن لم يكن فإن الفاعل القادر على الفعل أكمل الفاعل العاجز عن الفعل. فإذا قيل لا يمكنه إحداث الحوادث بل مفعوله لازم لذاته كان هذا نقصاً بالنسبة إلى القادر الذي يفعل شيئاً بعد شيء وكذلك إذا قيل: جعل الشيء الواحد متحركاً ساكناً موجوداً معدوماً صفة كمال قيل هذا ممتنع لذاته. وكذلك إذا قيل إبداع قديم واجب بنفسه صفة كمال قيل هذا ممتنع لنفسه فإن كونه مبدعاً يقتضي أن لا يكون واجباً بنفسه بل واجباً بغيره فإذا قيل هو واجب موجود بنفسه وهو لم يوجد إلا بغيره كان هذا جمعاً بين النقيضين. وكذلك إذا قيل: الأفعال القائمة والمفعولات المنفصلة عنه إذا كان اتصافه بها صفة كما فقد فاتته في الأزل وإن كان صفة نقص فقد لزم اتصافه بالنقائص. قيل الأفعال المنفعلة بمشيئته وقدرته يمتنع أن يكون كل منها أزلياً. وأيضاً فلا يلزم أن يكون وجود هذه في الأزل صفة كمال بل الكمال أن توجد حيث اقتضت الحكمة وجودها وأيضاً فلو كانت أزلية لم تكن موجودة شيئاً بعد شيء فقول القائل فيما حقه أن يوجد شيئاً بعد شيء فينبغي أن يكون في الأزل جمع بين النقيضين. وأمثال هذا كثير فلهذا قلنا الكمال الممكن الوجود فما هو ممتنع في نفسه فلا حقيقة له فضلاً عن أن يقال هو موجود أو يقال هو كمال للموجود. وأما الشرك الآخر وهو قولنا الكمال الذي لا يتضمن نقصاً على التعبير بالعبارة السديدة أو الكمال الذي لا يتضمن نقصاً يمكن انتفاؤه على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصاً - فاحتراز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصاً كالأكل والشرب مثلاً فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب لأن قوامه بالأكل والشرب فإذا قدر غير قابل له كان ناقصاً عن القابل لهذا الكمال لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كمال إلى غيره فإن الغني عن شيء أعلى من الغني به. والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره. ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق وهو كل ما كان مستلزماً لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته أو مستلزماً للحدوث المنافي لقدمه أو مستلزماً لفقره المنافي لغناه.
في نتيجة ما تقدم وهو كون ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق وكون أولى الناس به سلف هذه الأمةإذا تبين هذا تبين أن ما جاء به الرسول هو الحق الذي يدل عليه المعقول وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له وأعظمهم له موافقة وهم سلف الأمة وأئمتها الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات ونزهوه عن مماثلة المخلوقات فإن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام صفات كمال ممكنة بالضرورة ولا نقص فيها فإن ما اتصف بهذه فهو أكمل مما لا يتصف بها والنقص في انتفائها لا في ثبوتها. والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجماد. وأهل الإثبات يقولون للنفاة: لو لم يتصف بهذه الصفات لاتصف بأضدادها من الجهل والبكم والعمى والصم فقال لهم النفاة: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب والمتقابلات تقابل العدم والملكة إنما يلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر إذا كان المحل قابلاً لهما كالحيوان الذي لا يخلوا إما أن يكون أعمى وإما أن يكون بصيراً لأنه قابل لهما بخلاف الجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا. فيقول لهم أهل الإثبات: هذا باطل من وجوه. أحدها أن يقال الموجودات نوعان: نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي ونوع لا يقبله كالجماد. ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل مما لا يقبل ذلك وحينئذ فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها وأن يكون القابل لها وهو الحيوان الأعمى الأصم الذي لا يقبل السمع والبصر أكمل منه فإن القابل للسمع والبصر في حال عدم ذلك أكمل ممن لا يقبل ذلك فكيف المتصف بها فلزم من ذلك أن يكون مسلوباً لصفات الكمال على قولهم ممتنعاً عليه صفات الكمال فأنتم فررتم من تشبيهه بالإحياء فشبهتموه بالجمادات وزعمتم أنكم تنزهونه عن النقائص فوصفتموه بما هو أعظم النقص. الوجه الثاني أن يقال: هذا التفريق بين السلب والإيجاب وبين العدم والملكة أمر اصطلاحي وإلا فكل ما ليس بحي فإنه يسمى ميتاً كما قال تعالى ) )الوجه الثالث( أن يقال: نفي سلب هذه الصفات نقص وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حياً عليماً قديراً متكلماً سميعاً بصيراً أكمل ممن لا يكون كذلك وإن ذلك لا يقال سميع ولا أصم كالجماد وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال ومجرد سلبها من النقص وجب ثبوتها لله تعالى لأنه كما ممكن للوجود ولا نقص فيه بحال بل النقص في عدمه وكذلك إذا قدرنا موصوفين بهذه الصفات أحدهما يقدر على التصرف بنفسه فيأتي ويجيء وينزل ويصعد ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به والآخر يمتنع ذلك منه فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال كان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه. وإذا قيل قيام هذه الأفعال يستلزم قيام الحوادث به كان كما إذا قيل قيام الصفات به يستلزم قيام الأعراض به والأعراض والحوادث لفظان مجملان فإن أريد بذلك ما يعقله أهل اللغة من أن الأعراض والحوادث هي الأمراض والآفات كما يقال: فلان قد عرض له مرض شديد وفلان قد أحدث حدثاً عظيماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وقال " لعن الله من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً " وقال " إذا أحدث أحدكم فلا يصلي حتى يتوضأ " ويقول الفقهاء: الطهارة نوعان طهارة الحديث وطهارة الخبث. ويقول أهل الكلام: اختلف الناس في أهل الأحداث من أهل القبلة كالربا والسرقة وشرب الخمر ويقال فلان به عارض من الجن وفلان حدث له مرض. فهذه من النقائص التي تنزه الله عنها. وإن أريد بالأعراض والحوادث اصطلاح خاص فإنما أحدث ذلك الاصطلاح من أحدثه من أهل الكلام وليست هذه لغة العرب ولا لغة أحد من الأمم لا لغة القرآن ولا غيره ولا العرف العام ولا اصطلاح أكثر الخائضين في العلم بل مبتدعو هذا الاصطلاح هم من أهل البدع المحدثين في الأمة الداخلين في ذم النبي صلى الله عليه وسلم. وبكل حال مجرد هذا الاصطلاح وتسمية هذه أعراضاً وحوادث لا يخرجها عن أنها من الكمال الذي يكون المتصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتصاف بها أو يمكنه ذلك ولا يتصف بها. وأيضاً فإذا قدر اثنان أحدهما موصوف بصفات الكمال التي هي أعراض وحوادث على اصطلاحهم كالعلم والقدرة والفعل والبطش والآخر يمتنع أن يتصف بهذه الصفات التي هي أعراض وحوادث كان الأول أكمل كما أن الحي المتصف بهذه الصفات أكمل من الجمادات. وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يحب نعوت الكمال ويفرح بها ويرضاها والآخر لا فرق عنده بين صفات الكمال وصفات النقص فلا يحب لا هذا ولا هذا ولا يرضى لا هذا ولا هذا ولا يفرح لا بهذا ولا بهذا كان الأول أكمل من الثاني. ومعلوم أن الله تبارك وتعالى يحب المحسنين والمتقين والصابرين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهذه كلها صفات كمال. وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يبغض المتصف بضد الكمال كالظلم والجهل والكذب ويغضب على من يفعل ذلك والآخر لا فرق عنده بين الجاهل الكاذب الظالم وبين العالم الصادق العادل لا يبغض لا هذا ولا هذا ولا يغضب لا على هذا ولا على هذا كان الأول أكمل. وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يقدر أن يفعل بيديه ويقبل بوجهه والآخر لا يمكنه ذلك إما لامتناع أن يكون له وجه ويدان وإما لامتناع الفعل والإقبال عليه باليدين والوجه كان الأول أكمل. فالوجه واليودان لا يعدان من صفات النقص في شيء مما يوصف بذلك ووجه كل شيء بحسب ما يضاف إليه وهو ممدوح به. لا مذموم كوجه النهار ووجه الثوب ووجه القوم ووجه الخيل ووجه الرأي وغير ذلك وليس الوجه المضاف إلى غيره هو نفس المضاف إليه في شيء من موارد الاستعمال سواء كان الاستعمال حقيقة أو مجازاً. فإن قيل: من يمكنه الفعل بكلامه أو بقدرته بدون يديه أكمل ممن يفعل بيديه. قيل من يمكنه الفعل بقدرته أو تكليمه إذا شاء وبيديه إذا شاء هو أكمل ممن لا يمكنه الفعل إلا بقدرته أو تكليمه ولا يمكنه أن يفعل باليد ولهذا كان الإنسان أكمل من الجمادات التي تفعل بقوى فيها كالنار والماء فإذا قدر اثنان أحدهما لا يمكنه الفعل إلا بقوة فيه والآخر يمكنه الفعل بقوة فيه وبكلامه فهذا أكمل فإذا قدر آخر يفعل بقوة فيه وبكلامه وبيديه إذا شاء فهو أكمل وأكمل. وأما صفات النقص فمثل النوم فإن الحي اليقظان أكمل من النائم والوسنان والله لا تأخذه سنة ولا نوم وكذلك من يحفظ بلا اكتراث أكمل ممن يلزمه ذلك والله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وكذلك من يفعل ولا يتعب أكمل ممن يتعب والله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب. ولهذا وصف الرب بالعلم دون الجهل والقدرة دون العجز والحياة دون الموت والسمع والبصر والكلام دون الصم والعمي والبكم والضحك دون البكاء والفرح دون الحزن. وأما الغضب مع الرضاء والبغض مع الحب فهو أكمل ممن لا يكون منه إلا الرضى والحب دون البغض والغضب للأمور التي تستحق أن تذم وتبغض ولهذا كان اتصافه بأنه يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل أكمل من اتصافه بمجرد الإعطاء والإعزاز والرفع لأن الفعل الآخر حيث تقتضي الكلمة ذلك أكمل من لا يفعل إلا أحد النوعين ويخل بالآخر في المحل المناسب له. من اعتبر هذا الباب وجده على قانون الصواب والله الهادي لأولي الألباب.
|